فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{وَأَدْخِلْ يَدَكَ في جَيْبِكَ} أي جيب قميصك وهو مدخل الرأس منه المفتوح إلى الصدر لا ما يوضع فيه الدراهم ونحوها كما هو معروف الآن لأنه مولد، ولم يقل سبحانه: في كمك لأنه عليه السلام كان لابسًا إذ ذاك مدرعة من صوف لا كم لها، وقيل: الجيب القميص نفسه لأنه يجاب أي يقطع فهو فعل بمعنى مفعول، وقال السدي: {فِى جَيْبِكَ} أي تحت إبطك.
ولعل مراده أن المعنى أدخلها في جيبك وضعها تحت إبطك، وكانت مدرعته عليه السلام على ما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا أزرار لها، وقد ورد في بعض الآثار أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان مطلق القميص في بعض الأوقات، ففي سنن أبي داود باب في حل الأزرار ثم أخرج فيه من طريق معاوية بن قرة قال: حدثني أبي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من مزينة فبايعناه وإن قميصه لمطلق، وفي رواية البغوي في معجم الصحابة لمطلق الأزرار قال: فبايعته.
ثم أدخلت يدي في جيب قميصه فمسست الخاتم، قال عروة فما رأيت معاوية ولا أباه قط إلا مطلقي أزرارهما، ولا يزرانها أبدًا وجاء أيضًا أنه عليه الصلاة والسلام أمر بزر الأزرار.
فقد أخرج الطبراني عن زيد بن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه فإذا أزراره محلولة فزرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وقال: «اجمع عطفي ردائك على نحرك» وفي هذين الأثرين ما هو ظاهر في أن جيب القميص كان إذا ذاك على الصدر كما هو اليوم عند العرب.
وهو يبطل القول بأنه خلاف السنة وأنه من شعائر اليهود، وأمره تعالى إياه عليه السلام بإدخال يده في جيبه مع أنه سبحانه قادر على أن يجعلها بيضاء من غير إدخال للامتحان وله سبحانه أن يمتحن عباده بما شاء، والظاهر أن قوله تعالى: {تُخْرِجُ} جواب الأمر لأن خروجها مترتب على إدخالها، وقيل: في الكلام حذف تقديره وأدخل يدك في جيبك تدخل وأخرجها تخرج فحذف من الأول ما أثبت مقابلة في الثاني ومن الثاني ما أثبت مقابله في الأول فيكون في الكلام صنعة الاحتباك وهو تكلف لا حاجة إليه، وقوله تعالى: {بَيْضَاء} حال وكذا قوله تعالى: {مِنْ غَيْرِ سُوء} وهو احتراس وقد تقدم الكلام فيه.
وكذا قوله سبحانه: {فِى تِسْعِ ءايات} أي آية معدودة من جملة تسع آيات أو معجزة لك معها على أن التسع هي الفلق والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمسة وهي جعل أسبابهم حجارة والجدب في بواديهم والنقصان في مزارعهم ولمن عد العصا واليد من التسع أن يعد الجدب والنقصان في المزارع واحدًا ولا يعد الفلق منها لأنه عليه السلام لم يبعث به إلى فرعون وأن تقدمه بيسير؛ ومن عده يقول: يكفي معاينته له في البعث به أو هو بعث به لمن آمن من قومه ولمن تخلف من القبط ولم يؤمن، وفي التقريب أن الطمسة والجدب والنقصان يرجع إلى شيء واحد فالتسع هذا الواحد والعصا واليد وما بقي من المذكورات وذهب صاحب الفرائد إلى أن الجراد القمل واحد، والجدب والنقصان واحد، وجوز أن يكون في تسع منقطعًا عما قبله متعلقًا بمحذوف أي اذهب في تسع آيات ويدل على ذلك قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءتْهُمْ ءاياتنا} [النمل: 13] وفي بمعنى مع، ونظير هذا الحذف ما في قوله:
أوا ناري فقلت منون أنتم ** فقالوا الجن قلت عموا ظلامًا

وقلت إلى الطعام فقال منهم ** فريق يحسد الإنس الطعاما

فإن التقدير هلموا إلى العطام ويتعلق بهذا المحذوف قوله تعالى: {إلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} وعلى ما تقدم يتعلق بمحذوف وقع حالًا أي مبعوثًا أو مرسلًا إلى فرعون، وأيًا ما كان فقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمًا فاسقين} مستأنف استئنافًا بيانيًا كأنه قيل لم أرسلت إليهم بما ذكر؟ فقيل: إنهم الخ، والمراد بالفسق إما الخروج عما ألزمهم الشرع إياه إن قلنا بأنهم قد أرسل قبل موسى عليه السلام من يلزمهم اتباعه وهو يوسف عليه السلام، وإما الخروج عما ألزمه العقل واقتضاء الفطرة إن قلنا بأنه لم يرسل إليهم أحد قبله عليه السلام.
{فَلَمَّا جَاءتْهُمْ ءاياتنا} أي ظهرت لهم على يد موسى عليه السلام، فالمجيء مجاز عن الظهور وإسناده إلى الآيات حقيقي، وقال بعض الأجلة: المجيء حقيقة وإسناده إلى الآيات مجازي وهو حقيقة لموسى عليه السلام ولما بينهما من الملابسة لكونها معجزة له عليه السلام ساغ ذلك.
ولعل النكتة في العدول عن فلما جاءهم موسى بآياتنا إلى ما في النظم الجليل الإشارة إلى أن تلك الآيات خارجة عن طوقه عليه السلام كسائر المعجزات وأنه لم يكن له عليه السلام تصرف في بعها وكونه معجة له لأهباره به ووقوعه بدعائه ونحوه، ولا ينافي هذا الإسناد إليه لكونها جارية على يده للإعجاز في قوله سبحانه: {فَلَمَّا جَاءهُم موسى بآياتنا} [القصص: 36] في محل آخر، وقد بين بعضهم وجهًا لاختصاص كل منهما بمحله بأن ثمة ذكر مقاولته عليه السلام ومجادلتهم معه فناسب الإسناد إليه، وهنا لما لم يكن كذلك ناسب الإسناد إليها لأ المقصود بيان جحودهم بها، وإضافة الآيات للعهد، وفي إضافتها إلى ضمير العظمة ما لا يخفى من تعظيم شأنها {مُبْصِرَةً} حال من الآيات أي بينة واضحة، وجعل الأبصار لها وهو حقيقة لمتأمليها للملابسة بينها وبينهم لأنهم إنما يبصرون بسبب تأملهم فيها فالإسناد مجازي من باب الإسناد إلى السبب، ويجوز أن يراد مبصرة كل من نظر إليها من العقلاء أو من فرعون وقومه لقوله تعالى: {واستيقنتها أَنفُسُهُمْ} [النمل: 14] أي جاعلته بصيرًا من أبصره المتعدي بهمزة النقل من بصر والإسناد أيضًا مجازي.
ويجوز أن تجعل الآيات كأنها تبصر فتهدي لأن العمى لا تقدر على الاهتداء فضلًا أن تهدي غيرها فيكون في الكلام استعارة مكنية تخييلية مرشحة، قال في الكشف وهذا الوجه أبلغ، وقيل: إن فاعلًا أطلق للمفعول فالمجاز إما في الطرف أو في الإسناد فتأمل.
وقرأ قتادة وعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما {مُبْصِرَةً} بفتح الميم والصاد على وزن مسبغة، وأصل هذه الصيغة أن تصاغ في الأكثر لمكان كثر فيه مبدأ الاشتقاق فلا يقال: مسبعة مثلًا إلا لمكان يكثر فيه السباع لا لما فيه سبع واحد ثم تجوز بها عما هو سبب لكثرة الشيء وغلبته كقولهم: الولد مجبنة ومبخلة أي سبب لكثرة جبن الوالد وكثرة بخله وهو المراد هنا أي سببًا لكثرة تبصر الناظرين فيها، وقال أبو حيان: هو مصدر أقيم مقام الاسم وانتصب على الحال أيضًا {قَالُواْ هذا} أي الذي نراه أو نحوه {سِحْرٌ مُّبِينٌ} أي واضح سحريته على أن {مُّبِينٌ} من أبان اللازم.
{وَجَحَدُواْ بِهَا} أي وكذبوا بها {واستيقنتها أَنفُسُهُمْ} أي علمت علمًا يقينيًا أنها آيات من عند الله تعالى، والاستيقان أبلغ من الإيقان.
وفي البحر أن استفعل هنا بمعنى تفعل كاستكبر بمعنى تكبر، والأبلغ أن تكون الواو للحال والجملة بعدها حالية إما بتقدير قد أو بدونها {ظُلْمًا} أي للآيات كقوله تعالى: {بِمَا كَانُواْ بآياتنا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 9] وقد ظلموا بها أي ظلم حيث حطوها عن رتبتها العالية وسموها سحرًا، وقيل: ظلمًا لأنفسهم وليس بذاك {وَعُلُوًّا} أي ترفعًا واستكبارًا عن الإيمان بها كقوله تعالى: {والذين كَذَّبُواْ بآياتنا واستكبروا عَنْهَا} [الأعراف: 36] وانتصابهما إما على العلية من {جَحَدُواْ} وهي على ما قيل باعتبار العاقبة والادعاء كما في قوله:
لدوا للموت وابنوا للخراب

وأما على الحال من فاعله أي جحدوا بها ظالمين عالين، ورجح الأول بأنه أبلغ وأنسب بقوله تعالى: {فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين} أي ما آل إليه فرعون وقومه من الإغراق على الوجه الهائل الذي هو عبرة للظالمين، وإنما لم يذكر تنبيهًا على أنه عرضة لكل ناظر مشهور لدى كل باد وحاضر.
وأدخل بعضهم في العاقبة حالهم في الآخرة من الإحراق والعذاب الأليم.
وفي إقامة الظاهر مقام الضمير ذم لهم وتحذير لأمثالهم.
وقرأ عبد الله وابن وثاب والأعمش وطلحة وأبان بن تغلب {وعليًا} بقلب الواو ياء وكسر العين واللام، وأصله فعول لكنهم كسروا العين اتباعًا، وروي ضمها عن ابن وثاب. والأعمش. وطلحة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ}.
عطف على قوله: {وألق عصاك} [النمل: 10] وما بينهما اعتراض، بعد أن أراه آية انقلاب العصا ثعبانًا أراه آية أخرى ليطمئن قلبه بالتأييد، وقد مضى في طه التصريح بأنه أراه آية أخرى.
والمقصود من ذلك أن يعجل له ما تطمئن له نفسه من تأييد الله تعالى إياه عند لقاء فرعون.
وقوله: {في تسع آيات} حال من {تخرج بيضاء} أي حالة كونها آية من تسع آيات، و{إلى فرعون} صفة لآيات، أي آيات مسوقة إلى فرعون.
وفي هذا إيذان بكلام محذوف إيجازًا وهو أمر الله موسى بأن يذهب إلى فرعون كما بيّن في سورة الشعراء.
والآيات هي: العصا، واليَد، والطوفان، والجراد، والقُمَّل، والضفادع، والدم، والقحط، وانفلاق البحر وهو أعظمها، وقد عدّ بعضها في سورة الأعراف.
وجمعها الفيروزآبادي في بيت ذكره في مادة تسع من القاموس وهو:
عصًا سَنَةٌ بحر جراد وقُمَّل ** يَدٌ ودَمٌ بعدَ الضفادع طُوفان

{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13)}.
أوجز بقية القصة وانتقل إلى العبرة بتكذيب فرعون وقومه الآيات، ليُعتبر بذلك حال الذين كذبوا بآيات محمد صلى الله عليه وسلم وقصد من هذا الإيجاز طي بساط القصة لينتقل منها إلى قصة داود ثم قصة سليمان المبسوطة في هذه السورة.
والمراد بمجيء الآيات حصولها واحدة بعد أخرى وهي الآيات الثمان التي قبل الغرق والمبصرة: الظاهرة صيغ لها وزن اسم فاعل الإبصار على طريقة المجاز العقلي، وإنما المبصر الناظرُ إليها.
وقد تقدم في قوله تعالى: {وآتينا ثمود الناقة مبصرة} في سورة الإسراء (59).
والجحود: الإنكار باللسان.
و{استيْقنتها} بمعنى أيقنت بها، فحُذف حرف الجر وعدي الفعل إلى المجرور على التوسع أو على نزع الخافض، أي تحققتها عقولُهم، والسين والتاء للمبالغة.
والظلم في تكذيبهم الرسول لأنهم ألصقوا به ما ليس بحق فظلموه حقه.
والعلو: الكبر ويحسن أن تكون جملة: {واستيقنتها} حالية، فقوله: {ظلمًا وعلوًا} نشر على ترتيب اللفّ.
فالظلم في الجحد بها والعلوّ في كونهم موقنين بها.
وانتصب {ظلمًا وعلوًّا} على الحال من ضمير {جحدوا} وجعل ما هو معلوم من حالهم فيما لحق بهم من العذاب بمنزلة الشيء المشاهد للسامعين فأمر بالنظر إليه بقوله: {فانظر كيف كان عاقبة المفسدين} والخطاب لغير معين.
ويجوز أن يكون الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم تسلية له بما حلّ بالمكذبين بالرسل قبله لأن في ذلك تعريضًا بتهديد المشركين بمثل تلك العاقبة.
و{كيف} يجوز أن يكون مجرّدًا عن معنى الاستفهام منصوبًا على المفعولية، ويجوز أن يكون استفهامًا معلِّقًا فعلَ النظر عن العمل، والاستفهام حينئذ للتعجيب. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} هذه آية أخرى ومعجزة جديدة، قال عنها في موضع آخر: {اسلك يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} [القصص: 32].
فما الفرق بين: أَدْخِل يدك، واسْلُك يدك؟ قالوا: لأنه ساعة يُدخِل يده في جيبه يعني: في فتحة القميص، إنْ كانت فتحة القميص مفتوحة أدخل يده بسهولة فيُسمّى إدخال.
فإن كانت مغلقة فيها أزرار مثلًا احتاج أنْ يسلك يده يعني: يُدخلها برفق ويُوسِّع لها مكانًا، نقول: سلك الشيء يعني: أدخله بلُطْف ورِفْق، ومنه السلك الرفيع حين تُدخِله في شيء.
وساعةَ نسمع كلمة الجيب نجد أن لها معنىً عرفيًا بين الناس، ومعنى لُغويًا: فمعناها في اللغة فتحة القميص العليا، والتي تكون للرقبة، وهي في المعنى العُرْفي فتحة بداخل الثوب يضع فيها الإنسان نقوده، يقولون جيب والعوام لهم عُذْر في ذلك؛ لأنهم اضطروا إلى حِفْظ نقودهم داخل الثياب، حتى لا تكون ظاهرة، وربما سرقها منهم النشالون والأشقياء.
ولا يزال الفلاحون في الريف يجعلون الجيب في السديري الداخلي؛ لذلك سمعنا الحاوي مثلًا يقول ليُحنِّن الناس عليه بارك الله فيمَنْ يضع يده في جيبه يعني: بارك الله في الذي يعطيني جنيهًا.
وقوله تعالى: {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سواء} [النمل: 12] أي: وأخرجها تخرج بيضاء ناصعة مُنوِّرة، ومعلوم أن موسى عليه السلام كان آدمَ اللون يعني: أسمر، فحين يروْنَ لونه تغيّر إلى البياض، فربما قالوا: إن ذلك مرضٌ كالبرص مثلًا.
لذلك أزال الله هذا الظنَّ بقوله: {مِنْ غَيْرِ سواء} [النمل: 12] من غير مرض {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} [النمل: 12] ليعلم موسى عليه السلام أن هذه الآية واحدة من تسع آيات أخرى يُثبِّته الله بها أمام عدوه فرعون وقومه.
وهذه التسع هي: العصا ولها مهمتان: أن تتحول إلى حية أمام السحرة، وأنْ يضرب بها البحر أمام جيشه، حينما يهاجمه فرعون وجنوده.
ثم اليد، واثنتان هما الجدب، ونقص الثمرات في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بالسنين وَنَقْصٍ مِّن الثمرات} [الأعراف: 130].
ثم: الطوفان، والجراد، والقُمَّل، والضفادع، والدَّم. هذه تسع آيات. تُثبِّت موسى أمام فرعون وقومه. فهل أُرسل موسى عليه السلام إلى فرعون خاصة؟ لا، إنما أُرسِل إلى بني إسرائيل، لكنه أراد أنْ يُقنع فرعون بأنه مُرْسَل من عند الله حتى لا يحول بينه وبينهم، وجاءت مسألة دعوة فرعون إلى الإيمان بالله عَرَضًا في أحداث القصة، فليست هي أساسَ دعوة موسى عليه السلام.
ومعنى {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمًا فَاسِقِينَ} [النمل: 12] إشارةً إلى أن الإنسان وإنْ كان كافرًا خارجًا عن طاعة الله إلا أنَّ أصله من أصلاب مؤمنة، والمراد الإيمان الأول في آدم عليه السلام، وفي ذريته من بعده، لكنهم فسقوا أي: خرجوا من غشاء التكليف الذي يُغلِّف حركة حياتهم، كما نقول: فسقت الرطبة: يعني خرجت من غلافها، كذلك فَسَق الإنسان أي: خرج عن حيِّز التكليف الصائن له.
ثم يقول الحق سبحانه: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا}.
الآيات: المعجزات التي تُثبت صِدْق الرسول، والآيات تكون مُبْصَرة بصيغة اسم المفعول، لكن كيف تكون هي المبصرة بصيغة اسم الفاعل، وهذه المسألة عرفناها أخيرًا، فكانوا منذ القدم عند اليونان والحضارات القديمة يظنون أن رؤية العين للأشياء تحدث من شعاع يخرج من العين إلى الشيء المرئي، إلى أن جاء العالم المسلم الحسن بن الهيثم ليثبت خطأ هذه النظرية ويقول بعكسها.
فالرؤية تتم بخروج شعاع من الشيء المرئيّ إلى العين، بدليل أننا لا نرى الشيء إنْ كان في الظلام، وأنت في النور، فإنْ كان الشيء في النور وأنت في الظلام تراه.
إذن: فكأن الآيات نفسها هي المبصِرة؛ لأنها هي التي ترسل الأشعة التي تسبب الرؤية. أو: أن الآيات من الوضوح كأنها تُلِحّ على الناس أنْ يروْا وأنْ يتأملوا، فكأنها أبصرُ منهم للحقائق.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ}.
{وَجَحَدُواْ} [النمل: 14] أي: باللسان {بِهَا} [النمل: 14] بالآيات {واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ} [النمل: 14] أي: إيمانًا بها، إذن: المسألة عناد ولَدَد في الخصومة؛ لذلك قال تعالى بعدها: {ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] أي: استكبارًا عن الحق {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين} [النمل: 14] وترْك عاقبتهم مبهمة لتعظيم شأنها وتهويلها. اهـ.